طلال سلمان
السفير
05/07/2010
لم نتعوّد الكتابة عن المرجع ـ المنارة السيد محمد حسين فضل الله بصيغة «الغائب»، وهو الذي كان حضوره المشع بنور الدين يعزز فينا المعرفة بدنيانا لتكون لائقة بكرامة الإنسان وحقه في الحياة التي كرّمه بها الله
ولسوف يظل «السيد» حاضراً في يومياتنا باجتهاداته التي فتحت أبواب الدين أمام أبناء الحياة ليعيشوها متحررين من حكم الحاكم الظالم وعسف المحتل الدخيل، والمتاجر بالدين بحبسه في مجموعة من الطقوس التي تختلط فيها الخرافة بالبدعة من أجل الحجر على العقل، وتصوير الاعتراض على الخطأ وكأنه خروج على النص المقدس.
لقد قاد هذا النجفي المتحدّر من عيناتا (على التخم مع فلسطين) لأسرة من العلماء، مع بعض رفاقه المستنيرين، ثورة حقيقية في قلعة الفقه ومركز المرجعية هدفها الأساسي ربط الدين بالحياة، وتيسيره على المؤمنين، وجعلوه يحرّض على كسر النمطية والتقليد الجامد، بفهم كونه يحرّض على رفض الخنوع والاستسلام والتعامل مع الحاكم ـ مهما بلغ ظلمه ـ وكأنه ظل الله على الأرض والخروج على طاعته هي الكفر عينه
تمّ تحرير النص الديني من بعض «الشروحات» التي كادت تقفل باب الاجتهاد، مداراة لحاكم عاتٍ، أو لتجنّب الصدام مع غاز محتل، أو بذريعة الامتناع عن التسبّب في فتنة، في حين أن الصمت عن الخطأ هو الباب إلى الفتنة.. أما «علماء السلطان» فكانوا لا يتعبون من تسخير النص الديني، بحسب تفسيرهم المخل، بمعناه الأصلي، لتبرير الظلم وكأنه قدر مفروض لا مجال لتحديه أو الخروج منه.
وعبر معارك قاسية، أعيد النص الديني، بتفسيره الصحيح، إلى خدمة الإنسان في يومه وفي غده، وعلى قاعدة أن الدين يُسر لا عُسر، وكذلك على قاعدة أن الله قد أكرم الإنسان فأهداه النجدين، فأُسقطت مجموعة من الطقوس والعادات التي أسبغت عليها صفة المحرّمات... فإذا بالإمكان ـ مثلاً ـ تحديد الموعد الدقيق، وبالثانية، لولادة القمر وغيابه، وتحديد بداية الشهر الهجري، وبالتالي أن يعرف المؤمنون يوم عيد الفطر المبارك فلا يظل ضائعاً عنهم أو ضائعين عنه كل سنة، بما ينذر بفتنة، بعدما تعدّد محدِّدو موعد بدء الصيام وختامه ـ العيد.
وعبر معارك أقسى أعيد إلى «الجهاد» معناه الأصلي، فإذا مقاومة المحتل، أي محتل، فرض عين، وإذا مقاتلته واجب شرعي، يستوي في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، أو الاحتلال الأميركي، أو أي احتلال آخر لأي أرض عربية وإسلامية. وكيف يمكن لابن عيناتا الذي شهد مأساة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وخروج أهلها إلى شتات اللجوء أن ينسى أو يتناسى المأساة التي أسهمت في صياغة وعيه بالحياة.
صار الإيمان لازمة للتحرر والتحرير، التحرر من الخرافة والبدعة، وتحرير الأرض والإرادة من أي قاهر بالقوة أو بالخديعة وشق صفوف المؤمنين بتقسيمهم مذاهب وشيعاً وعناصر، مما يمكّن للمحتل ويشغل الناس بخلافاتهم «الفقهية»، وكثير منها من صنع قلة من المعمّمين الذين يزهدون بالدنيا تاركين الأمر لله، وبعضها الباقية من ابتداع قلة أخرى تأكل خبز السلطان وتفتي بأمره ولأمره.
صارت الثورة على الظلم والفساد الوجه الآخر للثورة على الاحتلال ومن ضمنه الاستيطان والسكوت عن الظالم والمحتل عملاً بحكمة أن العين لا تقاوم المخرز، أو أن كل شيء إنما يتم بإرادته عز وجل... وكأنما الاستيطان الإسرائيلي في أرض الشعب الفلسطيني وتحويله إلى مجاميع من اللاجئين إلى أوطان الآخرين «فريــضة» أو أنه قدر لا رادّ له، إلا إن شــاء الـله... والإحالـة إلى مشيـئة اللـه للتخـديـر لـيس إلا.
ولقد فهم المحتلون جميعاً، إسرائيل أساساً، ومن بعد الساعون لفرض الهيمنة الأميركية، خطورة الدور التنويري القيادي الذي يلعبه السيد محمد حسين فضل الله، ومن هنا تكرّرت المحاولات لاغتياله ولو بهدم حي كامل في الضاحية النوارة (حارة حريك) على رؤوس سكانه رجالاً ونساءً وأطفالاً.
كذلك فإن الثورة التي قادها هذا العالِم الذي خرج على الناس بتفسيره الصحيح للدين وفروضه، قد أخافت منه الذين يريدون إبقاء التقليد تقليدياً، فجاهروا باعتراضهم أن تستقر مرجعية جديدة، أو بديلة أو موازية للمرجعية القديمة، في بئر العبد ـ حارة حريك، خصوصاً أنها خارج السيطرة، لا يمكن شراء سكوتها أو إخضاعها، بعدما توجه نحوها المؤمنون الباحثون عن مرجع صالح، مستنير ومعاصر، يؤمن بالعلم ويحترم العقل ويحض على الجهاد ويرفض التنازل للسلطان.
ولقد كنا نقصد «السيـد» في أيام الشدة، وما أكثرها، لنثبت إيماننا بالإنسان وقدراته، ولنستنير بحكمته، ولنتعلم منه الصبر على الشدائد ومقاومة ما يُراد فرضه علينا. ولطالما قصدناه في زمن الحرب الأهلية من أجل تحرير «مخطوفين» لا ذنب لهم إلا أنهم قد يفيدون في «المقايضة» بمخطوفين آخرين، أو للضغط على هذه الجهة أو تلك من أجل قرار لا يعرفون ماهيته ومن يطلبه.
كذلك فلقد كنا نقصده طلباً لثقافة الحياة، وهو الشاعر، الناثر، الفقيه، القائد، المرشد، المصلح الاجتماعي والمستنير بإيمانه ومنير الطريق أمام الراغبين في الخروج من التيه إلى ميدان العمل من أجل غد أفضل للإنسان في وطنه.
بعد كل زيارة كنا نعود أكثر ثباتاً على إيماننا بعروبتنا، فهي عنده رابط مقدس، أولها تحرير فلسطين عنوان تحرير الإرادة العربية، ومعها العراق بعدما ورث الاحتلال الأميركي الطغيان فيه ووضعه على حافة الحرب الأهلية بالتمزقات التي اتخذت طابعاً متعدد «الهويات»: فهو طائفي في جهة، مذهبي في جهة ثانية، عنصري في جهة ثالثة، وهو في كل الحالات لا يخدم إلا الاحتلال ودعاة الانفصال ولو بتمزيق العراق.
وكنا من نعود من لدنه أكثر يقيناً بأن الجهاد في سبيل تحرير الأرض والإرادة هو هو الجهاد في سبيل الله، وأن الدين من أجل الإنسان لا من أجل السلطان، وأن العقل نعمة من الله سبحانه وتعالى وعلينا احترامه واعتماده من أجل أن تكون لنا حياة أفضل.
لقد جعل السيد محمد حسين فضل الله «المرجعية» حاضرة في حياتنا اليومية، تؤكد أن الإنسان هو الأصل، وأن الدين دليله إلى حقوقه وفي طليعتها حقه بالحياة الكريمة، والتحرر من كل ما يهدر إنسانيته سواء أكان حاكماً ظالماً أم متحكماً جاهلاً أو مستعمراً دخيلاً، وكل أولئك يسخر الإنسان ـ والوطن ـ لخدمته، بفرض الجمود على العقل بإرهاب التحريم والتكفير ممالأة للسلطان محلياً أو محتلاً أجنبياً.
عزاؤنا، أيها «السيد» في نهجك، وفي مؤسساتك الناجحة وهي تعمل في خدمة الإنسان، وفي تراثك الغني وقد تركت لنا مكتبة عظيمة فيها إلى جانب شروحاتك العصرية للدين وتعاليمه بالاستناد إلى العقل والمنطق مؤلفاتك في الثقافة وعلوم الحياة إضافة إلى دواوينك التي تجعلك تحتل موقعاً بارزاً بين شعراء عصرنا.
لقد أغنيتنا في حياتك بحياتك، وبنتاجك الغني، وبمنهجك العقلي والعصري في فهم الدين وتوكيد ارتباطه بالتقدم الإنساني، وها أنت تترك لنا ما تنتفع به الأجيال القادمة، ثقافة وعلماً وإيماناً.
فليباركك الله مرجعاً يرشدنا إلى طريق التقدم ويعزز فينا إحساسنا بكرامتنا كبشر وكأصحاب قضية تستحق أن نجاهد من أجلها... وأنت القدوة اليوم وغداً وفي كل زمان.
***************************************
حصّتي منه أسرار صغيرة
مهى زراقط
الأخبار
05/07/2010
كانت جدّتي تحكي دائماً بصوت منخفض، لكنّ صوتها كان يقترب من الهمس عندما كانت تودّعنا ونحن عائدون من القرية المحتلة في الجنوب إلى بيروت. تقترب من أمّي، تعانقها وتقول: «نيّالكون يا إمّي جيرة هالمؤمن».
نصعد إلى سيارة الأجرة، وأسأل أمي عن قصد جدتي من هذه العبارة، فتغيّر الموضوع، وتروح تحدّث السائق عن أمور أخرى. لا تجيب إلّا عندما نصل إلى البيت، وبلهجة مؤنّبة: كم مرة قلت لكِ أن تنتبهي إلى كلامك ونحن في القرية؟
أستغرب اللهجة، فأنا لم أُفشِ السرّ الذي نبّهتني أمي إلى ضرورة كتمانه. لم أقل لأحد إننا نسكن في بئر العبد، قرب الجامع الشهير، وإنّ في بنايتنا مركزاً للمقاومة. كان هذا سرّنا صغاراً، وكان الحفاظ عليه يمنحنا شعوراً بالفخر، فنحن أيضاً نشارك في المقاومة لأننا لا ندلّ إلى أماكن وجودها، وخصوصاً أنّ ذلك المكتب كان يومها سريّاً بالفعل.
أقول لأمي: وماذا قلت، لقد سألتكِ ماذا قصدت جدتي؟ تجيب: جدّتكِ قصدت السيد محمد حسين فضل الله.
يومها أضفت اسم السيّد إلى لائحة الأسرار الصغيرة التي أحتفظ بها، من دون أن أعرف أنه سيكون السرّ الأكبر في حياتي. أحكي عنه بحبّ، علناً أمام الجميع، وأحتفظ لنفسي بحصتي منه. علاقتي التي وطّدتها به دائماً أسرار صغيرة، تصلني همساً. بدءاً من همسات جدتي، التي لم يكن يخفّف من شعورها بالغربة عن غرفتها الصغيرة في القرية، حين تزور بيروت مرغمةً لعيادة الطبيب، إلّا زيارة لوالدة «السيّد المؤمن»، قريبتها، واحتمال أن تراه هناك. مرةً عادت ضاحكة وراحت تحكي كلّ الليل كيف دخل السيّد على أمّه وقبّل يديها، وكيف عرفها، وتذكّر جدّي فحدّثها عنه منادياً إياها: «يا بنت خالتي». قالت لي بفخر: «ما السيّد بيقربنا يا ستي». بدوري، صرت أقول لأصدقائي: «ما السيّد بيقرب ستّي».
قلتها أول مرة لزميلة في المدرسة، خضت معها مغامرتي الأولى بالخروج ليلاً من البيت، على الرغم من ممنوعات أمّي الكثيرة. «إلى الجامع يا خالتو، بدنا نسمع الدعاء»، قالت زميلتي لأمّي، وركضنا كي لا نتيح لها فرصة تغيير رأيها. ممرّ صغير بين بنايتين أوصلنا إلى الجامع الملاصق، صعدنا إلى الطبقة الثانية، وأدّينا الصلاة. كنت أردّد العبارات التي يقولها فضل الله بصوته، وأبحث عنه في المكان. أطلّ برأسي من فوق فأراه محاطاً بالشبّان الذين أعرف أنهم في المقاومة. كانوا يصلّون خلفه، يستمعون إلى عظته ويجالسونه ليطرحوا عليه أسئلتهم.
هل سأفعل ذلك يوماً؟ هل سيكون بوسعي أن ألتقيه وأطرح عليه أسئلتي؟ ماذا سأسأله؟
ذلك المساء كتبت أسئلة كثيرة على دفتري. قلت لنفسي، عندما ألتقيه يوماً سأساله إياها كلّها. وبقيت أحلم بيوم ألتقيه فيه، حتى بعدما انتقل إلى الجامع الكبير في حارة حريك، وبعدما بتّ أسمع من البعض عبارات مسيئة بحقه، تستنكر فتوى يسمّونها «جريئة» أصدرها من هنا، أو رأياً أدلى به من هناك.
همست لي صديقتي في الثانوية: «يمكننا أن نلتقيه بعد صلاة الجمعة في جامع الحسنين، وتستطيعين طرح أسئلتكِ عليه». قلت لها: «نعم، سأفعل»، لكنّي لم أملك يوماً جرأتها، هي التي كانت تعاني خللاً عاطفياً في عائلتها، وكتبت له تشكو من قصة حب فاشلة، فأعطاها موعداً لمقابلته. سردت لي بالتفصيل كيف دخلت، هي الشابة المراهقة إلى مكتبه، وكيف طلب من مرافقه الخروج لكي لا يربكها، وبادر هو إلى الحديث. قال لها: «لم أحبّ أن أكتب لكِ، ولا أن أحلّ الأمر عبر الهاتف. أنتِ شابة والمستقبل أمامكِ، الإنسان يتعلّم من الأمور التي يصادفها في حياته حتى لو أخطأ، والأهمّ ألّا تستصعبي الأمر». يومها قالت لي إنها شعرت بالسيّد يحدّثها كوالد «هكذا كنت أراه، والداً، وهو لم يخذلني وعاملني كابنته».
على الرغم من هذا الموقف الذي عاشته صديقتي، لم أتشجّع على طلب موعد منه. بقيت الرهبة موجودة، فقد كانت لي أسئلتي الخاصة جداً، التي اعتقدت أنني لن أجرؤ على طرحها عليه. لكنّ الفكرة بقيت تلحّ عليّ. ذات يوم اخترت عدداً من أسئلتي، كتبتها على ورقة وسرت باتجاه منزل السيّد. يومها شعرت بأنّني في صدد القيام بحدث استثنائي في حياتي. حدث لن أنساه. أطرق باب السيّد، أقابل رجل دين في مكتبه، وأضع أسئلتي في حوزته. يطمئنني الشيخ الذي استقبلني أنّ الأسئلة وصلت، فأتشجع وأقول: أريد أن يجيب السيّد شخصياً عليها. يقول لي: نعم. طبعاً.
أعود بعد يومين لأحصل على الإجابات، وأحزن لأني أجدها مطبوعة، وليس بخط يد السيّد. يقول لي الشيخ: أنتِ صاحبة الأسئلة الثورية؟ تفضّلي، هذه الإجابات. أعود أدراجي وأنا أسأل نفسي كلّ الطريق: من الذي وصف أسئلتي بالثورية، هو أم السيّد؟ وأحزن لأن الإجابات لم تلبِّ ثورتي. لم أقتنع، وبقيت أشعر برغبة في العودة مجدّداً للقائه.
مع الوقت كانت أسئلتي قد بدأت تقلّ. كنت قد بدأت أتدجّن وصرت أعتقد أنّني عندما سألتقي السيّد سأكون قد فقدت القدرة على طرح السؤال. لا أكاد أقتنع بهذا الأمر، حتى يهمس صديقي في العمل بأنه أخيراً اتخذ قرار الزواج. هو شابّ متديّن، من دون تزمّت مثل كثيرين من مقلّدي مرجعية فضل الله. يقول لي إنّ السيّد هو من شجّعه على اتخاذ القرار بعد مرحلة التردّد التي عاشها. هو أحبّ فتاة أقامت علاقات جنسية مع آخرين من دون زواج، كان مقتنعاً بقراره لكنه أراد تشجيعاً من شخص يثق به فلجأ إلى السيّد. «قال لي تزوّجها، ليس لأنك تحبّها فحسب، بل لأنها بدأت حياتها معك بالصدق، وكان يمكنها أن تكذب. عليك أن تحترم هذه الخطوة، واعلم أنك بموقفك هذا قد تكون تحميها من الاستمرار في طريق هي لم تعد تريده لنفسها». إجابة وجدها الشاب صادمة، على الرغم من أنه كان واثقاً بأنه سيخرج راضياً من مقابلته. ما صدمه قول السيّد له: «آن لنا أن نخرج من الموروثات، وهذا التعريف للرجولة المرتبط بنقاط الدم التي يراها الرجل ليلة زفافه. وكأنّ كبرياء الرجل الشرقي لا تتحقّق إلا بهذا الانتصار. هذه أمور نفسية علينا تخطّيها».
كان يكفي أن يكشف الصديق هذا السرّ، حتى يتشجّع شاب آخر ويحكي لنا، همساً أيضاً، سبب طلاقه من الفتاة التي أحبّها ست سنوات، وأنجب منها طفلة. يومها عارضه الكثيرون لأنّ زوجته كانت ممتازة بشهادة الجميع، وشهادته أيضاً. إيمانه جعله يلجأ إلى السيّد لأنه لا يريد أن يظلم امرأة لم تؤذه، «أخبرت السيّد بتفاصيل خاصة عن مشكلتي معها، فوجدته ينصحني بعدما ناقشني طويلاً، بأبغض الحلال. «طلّقها، أفضل لها ولك»، قال لي.
على الرغم من ذلك خانتني الشجاعة، ولم أقابل السيّد إلا بصفتي الصحافية. طرحت عليه عدداً محدوداً من الأسئلة بسبب ضيق الوقت. وعندما خرجت من مكتبه غير مكتفية، طلبت المزيد من الوقت. سُئل إن كان مستعداً لمقابلتي مجدداً، فطلب مني أن أنتظر خروج زوّار من عنده، واستقبلني بوجه باسم وسؤال: «ما الذي لم يقنعكِ؟ اسألي». سألت وأنا أفكر في كلّ من حمّلوني أسئلة وأحاول أن أخرج وفي حوزتي إجابات لهم جميعاً. وقلت لنفسي، مقابلتي هذه ستكون مدخلاً لمقابلتي الخاصة التي سأطلبها منه قريباً... ولم أفعل. وبقيت علاقتي به همسات يردّدها الأصدقاء عن اتصالات وأسئلة خاصة وجدوا في إجابات السيّد عليها حلولاً لمشاكلهم. هي أسرار صغيرة يحتفظ كلّ منّا بواحد منها ولا يفصح عنها إلا في لحظات المكاشفة. كثيرون ممن نلتقيهم يومياً اتصلوا بمكتبه طلباً لاستشارة أو لإنصاف. كثيرون طرقوا بابه المفتوح للجميع من دون موعد بين يومي الاثنين والخميس. كثيرون لم يجدوا غيره عاقداً لقرانهم. أما هو، فوحده من أبقى حزنه سراً. مرة واحدة ونادرة، فتح قلبه للناس، كان حزيناً وعبّر عن حزنه في محاضرة خاصة خرج كثيرون منها حاملين همّ السيّد، الذي كبر قبل أوانه، ورحل قبل موعدي معه. قبل أن أطرح عليه سؤالي الذي يبدو أنه سيبقى سراً بالفعل.
***********************************
أبو مقاومة حزب اللّه
الأخبار
حسن عليّق
05/07/2010
خلال عدوان تموز 2006، وجّه السيد محمد حسين فضل الله رسالة إلى المقاومين، خاطبهم فيها أكثر من مرّة بالقول: يا أبنائي. تكاد هذه الكلمة تلخّص العلاقة بين السيد وحزب الله، التي تعود إلى ما قبل أن يكون الحزب. ففي سبعينات القرن الماضي وبداية الثمانينات، كان ثمة مجموعات إسلامية ناشطة على الساحة اللبنانية، تتمحور حول فضل الله. مجموعات من حزب الدعوة وما تفرّع عنه، وأخرى من حركة أمل، وعدد من لجان المساجد. كان مسجد الإمام الرضا في بئر العبد (الضاحية الجنوبية) مصلّى السيد فضل الله، ومحط رحال أفراد هذه المجموعات، التي أسّست لاحقاً إطاراً جامعاً لها تحت مسمّى «حزب الله». معظم من انضووا في صفوف الحزب كانوا من مريدي السيد وتلامذته. صلّوا بإمامته. حضروا دروسه الدينية، وتأثروا بآرائه السياسية. وبعدما تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال (قبل عام 1982)، تطوّع شاب شديد القرب منه، يدعى عماد مغنية، لإنشاء جهاز لمرافقته وحمايته.
مثّل عام 1982 نقطة تحوّل مفصلية في حركة هذه المجموعات، بعدما غزت القوات الإسرائيلية لبنان. كان السيد في طهران، فأصرّ على العودة إلى بيروت. وفي الطريق إلى الضاحية، اختطفته القوات اللبنانية، قبل أن تطلق سراحه تحت ضغط سياسي. قصد الضاحية الجنوبية حيث كان «أبناؤه» يجهّزون أنفسهم لمقاومة الغزو. وفي ظل عباءته، أعدّوا العدة ليخرجوا إلى محاور القتال.
أسسوا «حزب الله»، من دون أن يبتعدوا عن السيد. وخلافاً لما يقال عن تلك الفترة، لم يكن بينه وبينهم أيّ رابط تنظيمي. لكنه كان كأبيهم. وأحياناً، تحدّث باسمهم، وفاوض لتقويتهم. أفتى للمقاومين بأن يضربوا العدو في كل مكان. «ولو عجزنا عن إخراجه من بلادنا، لوجب علينا جعل الاحتلال مكلفاً». بقي السيد في الضاحية، ونما حزب الله.
في بداية التسعينات، اتجه الحزب أكثر فأكثر صوب المأسسة، تماماً كما الحالة السائدة في المؤسسات التي أنشأها فضل الله. عام 1994، شهد منعطفاً في العلاقة بين جمهور السيد فضل الله وبعض جمهور حزب الله. حينذاك، توفي المرجع الشيعي محمد علي الآراكي، فتصدّى السيد محمد حسين فضل الله للمرجعية الدينية. حصل افتراق بين بعض الجمهورين، ونشأت بين الشيعة في لبنان والعالم حالة اعتراضية على كثير من آراء فضل الله الدينية. سريعاً، حاولت قيادة حزب الله احتواء الاعتراض الصادر في معظمه عن أشخاص من خارج الإطار التنظيمي للحزب. أصدر السيد حسن نصر الله قراراً يمنع فيه المحازبين من التعرض لفضل الله ولو بالنقد. نُفّذ هذا القرار بحزم في أحيان كثيرة، فيما لم ينقطع قادة الصف الأول في الحزب عن حضور دروس فضل الله أو صلاة الجمعة خلفه. وفي عام 1997، عندما انشقّ الشيخ صبحي الطفيلي عن حزب الله، رفض فضل الله منح الانشقاق أيّ شرعية. قالها في إحدى خطب الجمعة: «أرفض أيّ مساس بالمقاومة باسمي».
شيئاً فشيئاً، خفتت حدّة النقاش في أوساط الجمهور الواحد، لتأخذ مكانها داخل الأطر الحوزوية. ويوماً بعد آخر، عادت العلاقة بين الطرفين لتستقرّ عند الوصف الذي أطلقه عليها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في إحدى المحطات: «بيننا وبين سماحة السيد محمد حسين فضل الله وحدة رؤية ووحدة خطّ ووحدة أهداف». وأكثر ما تجلّت هذه المعادلة في مواقف الطرفين ابتداءً من عام 2004، وبالتحديد، منذ صدور القرار 1559. لم يترك فضل الله «أبناءه» يوماً من دون دعم. منحهم بركته في حركتهم المقاومة، وفي الداخل اللبناني، من دون أن يعني ذلك تخلّي أيّ منهما عن تميّزه واستقلاليته.
في عام 2006، بعد أيام على بدء عدوان تموز، لم يترك السيد حارته. كانت القنابل تسقط عليها بالأطنان، لكنه أصرّ على البقاء. دمّرت الطائرات الإسرائيلية مكاتبه، وأبى المغادرة. وحده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله تمكّن من إقناعه بالخروج. بعد أيام، خاطب فضل الله المقاومين قائلاً: يا أحبّتي وأبنائي. إنّ روحي معكم، وقلبي وعقلي معكم، ودعائي لكم...
No comments:
Post a Comment